الصديقة بنت عمران
أيها المسلمون لم يَذكر الله سبحانه وتعالى امرأةً في كتابه باسمها ووصفها إلا مريم ابنة عمران، ذكرَها الله سبحانه وتعالى في القرآن في أكثر من ثلاثين موطنًا، سُميت سورة باسمها، سميت سورة باسم عائلتها سورة مريم وسورة آل عمران.
اصطفاها الله سبحانه وتعالى اصطفاءً بعد اصطفاء، قال الله سبحانه وتعالى: إنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ ونُوحًا وآلَ إبْراهِيمَ وآلَ عِمْرانَ عَلى العالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِن بَعْضٍ واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .
اصطفى الله سبحانه وتعالى آل عمران. عمران كان من العبّاد المعدودين. اصطفى الله سبحانه وتعالى مريم، قال الله وجل الله: وإذْ قالَتِ المَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وطَهَّرَكِ واصْطَفاكِ عَلى نِساءِ العالَمِينَ يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ واسْجُدِي وارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ.
قصَّ الله سبحانه وتعالى علينا في القرآن دعاءُ امرأة عمران، أم مريم: إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، محررًا: يعني خالصًا لوجهك، لخدمة بيتك المقدس، وكان من عادتهم أن يُنذروا للبيت المقدس من يَقوم بخدمته، يَنقطع لهذا الشأن.
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ، وفي قراءة: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ يعني من قول امرأة عمران. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ، يعني: في الخدمة، وفي القيام بحق بيت الله. وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا .
الله سبحانه وتعالى أمر رسوله ﷺ أن يذكر قصة مريم، قال الله سبحانه وتعالى في سورة مريم: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا، نشأت عليها السلام طاهرةً مُطهرة، عابدةً متبتلةً لله سبحانه وتعالى، حتى عُرفت بهذا، وكان لا يساميها أحد في عبادتها وتقربها إلى الله سبحانه وتعالى، حتى بَلغت وطَعنت -في قول بعض أهل التفسير في السنة السابعة عشرة من عمرها-.
قال الله سبحانه وتعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا ، وفيه إخفاء العبادة، اتخذت بينها وبين قومها حجابًا، فلا يرو ما تتعبد لله سبحانه وتعالى به.
فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ، (روحنا): جبرائيل عليه السلام، فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ، تمثل لها بصورة إنسان سوي الخلقة، جميل، قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا . ظنتْ به الظنون، وأنّه أراد بها سوءًا، قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا ، قال مجاهد: علِمت أنّ المتقِي ذو نُهية، المتقي وإن خطى خطوات في الحرام إلا أنّه يَنتهي وذو نُهية، يَنتهي بأدنى شيء، إذا ذُكّر ذَكَر.
قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قَالَ كَذَٰلِكِ يعني ما ذكرتِ من طهارتك، وأنّه لم يَقربك رجل حق، قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا آية من آيات الله سبحانه وتعالى.
اعلموا يا عباد الله أن الله خلق الخلق على أربعة أقسام:
بلا ذكر ولا أثنى وهو آدم.
بذكر بلا أنثى وهي حواء.
ومن أنثى بلا ذكر وهو عيسى ابن مريم.
ومن ذكر وأنثى وهم بقية الخلائق.
قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا الله سبحانه وتعالى إذا قضى أمرًا كان، ولا معقب لحكمه جل جلاله، وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا، فسلَّمت لأمر الله عز وجل، فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ وقت الوضع، وهذا وقت شديد على النساء، وهذه امرأة يتيمة، وأتت أمرًا غريبًا مع قومها، ولا تدري ما الله صانع بها.
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا وفي قراءة: (فناداها مَن تحتها)، وهو في أصح قولي العلماء عيسى عليه السلام أنطقه الله لها قبل أن ينطق عند قومها، فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، قيل: نهر، وقيل: عيسى. قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّاوَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّافَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّافَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ۖ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا -أمرًا عظيمًا، مفترى- لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ﱠ يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّاوَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّاوَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ۚ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ
بيّن الله سبحانه وتعالى عيسى ابن مريم وأنّه عبدٌ، رسولٌ من الله سبحانه وتعالى، وأنّه ابن مريم، خلقه الله من أنثى بلا ذكر، وبيّن الله سبحانه وتعالى شيئًا من أخبار أسرته وآل عمران.
ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ۚ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَمَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ۖ سُبْحَانَهُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُوَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ، هذا هو الحق الذي لا مرية فيه، بيّنه الله سبحانه وتعالى ووضَحَه غاية التوضيح في كتابه جل جلاله، ومن تتبع الآيات في هذا وجدَ العجب العُجاب، من عِظم هذا القول الذي يَتلفظ به أعداء الله من المجرمين والملحدين، الذين يَسبون الله سبحانه وتعالى.
قال الله سبحانه وتعالى: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ، اختلفَ الناس، فاليهود كفروا به، وقالوا قولًا عظيمًا على مريم عليها السلام، والنصارى غلوا به وجعلوه ابنًا لله، تَعالَى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، وجعلته طائفة منهم هو الله، تَعالَى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا، وهدى الله فيه أهل الإسلام إلى أن يعرفوا الحق المبين الذي بينه الله سبحانه وتعالى.
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ ۖ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ توعدهم الله سبحانه وتعالى بهذا الوعيد.
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا، يعني: ما أسمعهم، وما أبصرهم، وما أعلمهم للحقيقة!، في يوم لا ينفع فيه إيمانهم.
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ۖ لَٰكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ، هذا القول البغيض الذي عَلمت عِظمه السماوات والأرض والجبال، قال الله سبحانه وتعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًالَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا يَعني من أعظم الدَّواهي، الإد: هو أعظم الدَّواهي.
لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّاتَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ هذا الخلق العظيم، السماوات، لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، تتفطر منه السماء، من هذا القول تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا قال محمد بن كعب القرظي: “كاد أعداء الله أن يُقيموا علينا القيامة”.
متى تتفطر السماء وتنشق الأرض وتَنهد الجبال؟ متى؟ يوم القيامة. كادوا يُقيمون علينا القيامة بسبب هذا القول الشنيع العظيم عند الله سبحانه وتعالى.
وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا.
اللهم إنا نبرأ إليك مما يقول المجرمون اللهم إنا نبرأ إليك مما يقول الملحدون اللهم إنا نبرأ إليك من كفر الكافرين نبرأ إليك يا ربنا من شرك المشركين.