معاشر المؤمنين.. إنّ من الأسباب الجالبة لمحبة الله عز وجل فيحب اللهُ -جل جلاله- عبده، ويحب العبدُ ربه: مطالعة القلب لأسماء الله الحسنى، وصفاته العلا، ومشاهدتها، وتقلبه في هذه المعرفة وميادينها.
هذا سبب من عشرة أسباب توارد العلماء على ذكرها في الأسباب الجالبة لمحبة الله عز وجل مطالعة أسماء الله الحسنى وصفاته العلا.
تكلمنا في خطبة ماضية عن اسم الله القوي وعن اسم الله الغني، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يُدبر الأمر. واليوم نتحدث عن اسم من أسمائه جل جلاله ذكره في كتابه العزيز في أكثر من مئة وسبعة وخمسين موضعًا.
يذكر الله سبحانه وتعالى هذا الاسم مرة بعد مرة تختم به الآيات اسمه جل جلاله العليم.
فالله سبحانه وتعالى بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ نحن في هذه الشدة وهذا البلاء الذي امتحن الله سبحانه وتعالى به الناس. متى سيرتفع هذا الوباء؟ الله وحده جل جلاله هو العالم، هو الذي يعلم سبحانه وتعالى ما أسبابه؟ من الذي سيُصاب به؟ من الذي سيَسلم منه؟ علمه عند الله سبحانه وتعالى.
يقول الله جل جلاله: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ
مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ -من الجذب والتصحر- وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ -من أمراض وأوجاع وأسقام- إِلَّا فِي كِتَابٍ ليس فقط يعلمها الله سبحانه وتعالى، وإنما عِلم وكِتابة، كتبه الله سبحانه وتعالى في اللوح المحفوظ. مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا.
ما معنى نبرأها؟ البَرء هو الخلق، من قبل أن نخلقها، الضمير عائد على أي شيء؟ من قبل أن يخلق الله ماذا؟ قيل: من قبل نخلق الخليقة والأرض ومن عليها.
الله سبحانه وتعالى يعلم ذلك وكتبه في كتاب، وقيل: مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا يعني المصيبة، من قبل أن تُخلق المصيبة.
والقول الثالث: مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا -يعني الأرض- إِنَّ ذَٰلِكَ فِي كِتَابٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [سورة الحج].
هو أمر يسير على الله سبحانه وتعالى، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى عنده مفاتح الغيب، قال سبحانه وتعالى: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ولاحظوا الآية معاشر المسلمين لم يقل الله سبحانه وتعالى ومفاتح الغيب عنده، وإنما هنا تقديم وتأخير، وعنده جل جلاله مفاتح الغيب. هذا التقديم ما فائدته؟ هذا التقديم فائدته الحصر، مفاتح الغيب هي عند الله فحسب. الناس كل الناس جماعات وأفرادًا غارقون في الجهل لا يعلمون، لا يعلمون مفاتح الغيب!.
مفاتح الغيب يعني خزائن الغيب، وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ، جاء في صحيح البخاري من حديث سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر قال: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ ثم تلا النبي ﷺ قوله جل جلاله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.
هذه مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو جل جلاله، قال جل جلاله في تكملة هذه الآية لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا، ما من ورقة من أوراق الشجر في المدن، في الصحاري، في البراري إلا يعلمها سبحانه وتعالى إذا سقطت.
وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ، أرى أنا وأنت والثاني والثالث سقوط الورقة نراها بأعيننا، لكن من يرى الحبة التي في ظلمات الأرض؟ سواءً ما غرسه الإنسان وما لم يغرسه. هذه النباتات التي تخرج في الصحاري يعلم الله سبحانه وتعالى البذور التي في ظلمات الأرض.
قال العلماء: عبر فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ؛ لأن الحبة قد تُغرس فتكون قريبة من الأرض، قد تُعلم لكن قال: فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ مهما نزلت في طبقات الأرض الله جل جلاله يعلم هذه الحبة، وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ ثم قال سبحانه وتعالى: وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ. كل ما نرى إما أن يكون رطب وإما أن يكون يابسًا، فهذا عموم بعد خصوص، قال: وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ.
ليس فقط يعلمه سبحانه وتعالى، يعلمه، وكتَبَه، وأمر الملائكة بكتبه في اللوح المحفوظ، في كتاب مبين يعني اللوح المحفوظ. مقيد ومكتوب عنده جل في علاه.
يا عباد الله…من تأمل وتفكر في اسم الله العليم زاد ذلك في إيمانه، زاد ذلك في توكله، زاد ذلك في يقينه، زاد ذلك في طمأنينته، عاش على هذه الأرض من أسعد الخلق؛ لأنه يعلم علم اليقين أن الأمور بيد الله سبحانه وتعالى وأن الأمور قد فرغ منها.
من عِلم الله سبحانه وتعالى وكمال علمه أنه يَعلم ما يكون وما لم يكن وما لا يكون كيف لو كان كيف كان يكون، كما قال سبحانه وتعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ.
وقول الله سبحانه وتعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ فالله سبحانه وتعالى يعلم جل جلاله- كل شيء، يعلم السر وأخفى، كما قال الله سبحانه وتعالى في أول سورة طه: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى.
قال سبحانه وتعالى قبل ذلك: يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى السر ما تكنه أنت وأنا في صدورنا.
ما نفكر فيه الآن الله يعلمه ، ما هو أخفى من السر؟ ما هو الأمر الذي هو أخفى من السر؟
العلماء تكلموا في ذلك، ومن الأقوال المناسبة في هذه الآية قول بعضهم: أن الله سبحانه وتعالى يعلم أخفى من السر. ماذا ستفكر به أنت بعد يوم، أو أسبوع، أو شهر، أو سنة. يعلمه الله سبحانه وتعالى، فعلمه تام جل في علاه.
معاشر المسلمين، أيها المؤمنون.. تأملوا وطالعوا في اسم الله سبحانه وتعالى العليم، عيشوا في رياض هذا الاسم فإن له ثمارًا عظيمة على صلاح القلب واستقامته، واستقامة العبد على أمر الله سبحانه وتعالى، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.