أخرج الإمام البخاري ومسلم من حديث محمد بن شهاب الزهري قال قال حميد بن عبد الرحمن سمعت معاوية خطيباً يقول سمعت النبي ﷺ يقول: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله). متفق عليه
هذا الحديث يبين فيه ﷺ أن من أراد الله سبحانه وتعالى به خيرا فقهه في الدين، ومفهوم هذا الحديث أن من لم يرزق الفقه في دين الله عز وجل لم يرد الله به خيرا ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهذا المفهوم جاء مصرحاً به في أحد روايات هذا الحديث كما عند أبي يعلى الموصلي في زيادة فيها ضعف، قال في آخره (ومن لم يتفقه في الدين لم يبال الله به)، وهذا صحيح. فإن الذي لا يرفع رأساً في تعلم قواعد هذا الدين وشرائع هذا الدين، ويكون جاهلاً بما فرضه الله سبحانه وتعالى عليه، فما أبعده عن الخير.
في هذا الحديث: فضل التفقه في دين الله عز وجل والعلم به، قال الله وجل الله وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ
وقال الله سبحانه وتعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، فالله عز وجل أشهد أهل العلم على أعظم مشهود، ألا وهي شهادة التوحيد لا إله إلا الله.
وقال الله سبحانه وتعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ، والجواب على هذا السؤال القرآني: أنه لا يستوي الذي يعلمون والذين لا يعلمون.
وهذه عادة قرآنية في كتاب الله تطرح الأسئلة ويترك الجواب لأنه ظاهر ومعلوم، فلا يستوي من تفقه في الدين ومن علم شرع الله سبحانه وتعالى بغيره.
يقول الله سبحانه وتعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ، فأهل العلم رفع الله لهم المقام، فهم أفضل من سائر الناس، وعلم الشريعة أفضل من سائر العلوم.
وعَنْ كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ : كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، إِنِّي جِئْتُكَ مِنْ مَدِينَةِ الرَّسُولِ ﷺ لِحَدِيثٍ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ ، مَا جِئْتُ لِحَاجَةٍ، قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: (مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا، سَلَكَ اللهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ) . أخرجه أبوداود وابن ماجه وأحمد والدارمي وصححه ابن حبان وغيره.
فهذا الحديث يبين مقام العلم وفضل العلم فالمحروم من حرم نفسه هذه الفضائل وانصرف عن التفقه في دين الله سبحانه وتعالى والتعلم لما أمر الله سبحانه وتعالى به.
فالعلم يا عباد الله على قسمين:
علم هو من فروض الكفايات إذا قام به البعض سقط الحرج والإثم على سائر الأمة.
وقسم من فروض الأعيان يجب على كل مسلم ومسلمة أن يتعلم هذا العلم.
ويدل على ذلك ما رواه أبو يعلى الموصلي من حديث أنس بن مالك يرفعه إلى النبي ﷺ قال: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) وهذا وإن كان في سنده حفص بن سليمان وهو ضعيف إلا أنَّ معناه صحيح.
وذلك أن من العلم قسم يجب على كل مكلف أن يتعلمه وقد فصل العلماء رحمهم الله العلم الواجب العلم الفرض الذي لا يعذر بجهله أحد من المسلمين.
فقالوا إن العلم الواجب على أربعة أنواع:
النوع الأول – مما يجب على كل مسلم ومسلمة أن يتعلمه -: علم أصول الإيمان الستة:
قال الله تعالى: (ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين..).
وقال الله سبحانه وتعالى: ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر فقد ضل ضلالا بعيدا .
وجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة وفي مسلم من حديث عمر حديث جبريل الطويل الذي جاء وسأل النبي ﷺ عن أمور الدين، سأل جبرائيل عليه السلام نبينا صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال :أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر والقدر خيره وشره قال: صدقت فهذه الأركان الستة مما يجب على المسلم أن يتعلمه لأن الإيمان فرع عن العلم فكيف يؤمن العبد بشيء لا يعرفه ولم يتعلمه.
النوع الثاني: علم شرائع الإسلام فيتعلم المسلم ما يجب عليه من وضوء وصلاة والصيام والحج والزكاة وتوابعها وشروطها ومبطلاتها، فهذا مما يجب أن يتعلمه، فلا يحسن بالمصلي بل يحرم عليه أن يصلي دون أن يتعلم الصلاة التي صلاها محمد ﷺ فربما صلى لسنوات ووقع فيما يبطل صلاته، فإن رسول الله ﷺ -كما في الصحيحين- دخل أحدهم عليه وهو جالس مع صحابته ﷺ فدخل رجل وصلى والنبي ﷺ يرمقه فلما فرغ من صلاته قال: (ارجع فصل فإنك لم تصل) فإن الصلاة إذا وقع فيها العبد في شيء من مبطلاتها لا ترفع وربما مكث الإنسان لا يحسن أن يصلي دهراً من الزمن، فالواجب عليه أن يتعلم أحكام شرائع الإسلام.
النوع الثالث: علم المحرمات الخمسة التي اتفقت عليها كل الرسل وكل الشرائع وكل الكتب الإلهية على تحريمها، فهي محرمة على لسان كل نبي وفي كل كتاب وفي كل شريعة، وهي المذكورة في سورة الأعراف قال تعالى: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق وان تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وان تقولوا على الله مالا تعلمون .
النوع الرابع: علم أحكام المعاشرة والمعاملة وهذا يختلف بين الناس خصوصاً وعموماً، فالواجب على الإمام فيما يتعلمه من أحكام الرعية، والحكم بالعدل، وشريعة الله سبحانه وتعالى لا يجب على الرجل فيما يتعلق به وبأهل بيته وجيرانه، والواجب على من نصب نفسه للتجارات والبيع والشراء ليس كالواجب على من لا يشتري ولا يبيع إلا ما تدعو الحاجة إليه، والواجب على من أقدم على الزواج أن يتعلم أحكامه ليس كمن لم يقدم عليه، وكذلك الواجب على من أقدم على الطلاق يجب عليه أن يتعلم أحكامه وهذا يختلف باختلاف أحوال الناس وظروفهم وما يحتاجون إليه من أحكام.
وهذا القسم عند بعض أهل العلم يسمى علم الحال، فإذا احتاج الإنسان أن يتعلم أمراً من أمور الشريعة فإنَّه يتعلمه إذا نصب نفسه إليه، نسأل الله جل جلاله أن يفقهنا في الدين ([1]).
([1]) مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 156) بتصرف يسير.