عبادات الإسلام تدعو إلى التكافل
الحمد لله
رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
فإن
الشريعة الإسلامية تتجه في كل أحكامها إلى تحقيق الأهداف التي تؤدي إلى تكافل
اجتماعي سليم، قائم على الائتلاف والتهذيب الديني والعدالة التي لا تكون فيها قوة
تتغلب على أخرى.
والعبادات
في الشريعة الإسلامية في ظاهرها أنها علاقة العبد بربه، ولكن هي في معناها تربية
الضمير الاجتماعي، الذي يجعل الأفراد مندمجين في المجتمع الذي يعيشون فيه، بقوة
إيمانية تحكم رغباتهم وميولهم وتوجه عقولهم، فيتحقق التكافل الاجتماعي في النفوس..
لقد شرعت
العبادة في الإسلام لتزكية النفس وتربيتها، وبث روح المساواة وروح الاجتماع الذي لا
اعتداء فيه، وإذا كانت العبادات لا تحقق تلك الأهداف التهذيبية فهي ليست عبادة
خالصة يقبلها الله تعالى ويثيب عليها.
ومن تلك العبادات: الصلاة:
حيث يجتمع الناس إليها في المسجد فيحصل بذلك معرفة الناس بعضهم بعضاً، فيعرف الغني
والفقير والعالم والجاهل.. ويساعد الفقراء بالدعم الفردي أو الجماعي، وبذلك يحصل
التآزر والتناصر والتكافل، وقد جاء نفر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقراء
فاحمرَّ وجهه، وقام ووعظ الناس للصدقة فتصدقوا في المسجد، فكان أول من وضع الصدقة
نالته جائزة عظيمة وهي بشارة الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: [1]من
سن في الإسلام سنة حسنة كان له من الأجر مثلها ومثل من عمل بها.. الحديث
رواه مسلم.
وهناك
لفتة أخرى في الصلاة:
فالصلاة تعني الوقوف بين يدي الله والتضرع والدعاء، وسؤاله المغفرة والرحمة، وحسن
الختام، فيحصل بذلك رقة قلب، وزكاة نفس، وسمو روح، وبعد عن القسوة والغفلة.. فإذا
رق القلب أثناء ذلك بادرت الجوارح إلى المساعدة والتعاون والوقوف مع السائل
والمحروم .. إذن نجد أن الصلاة من حيث هدفها، والمكان الذي تؤدي فيه، تدل على أن من
أسمى معانيها اجتماع القلوب وصفائها وتعاونها..
الصوم:
الصوم طهارة روحية، وسمو نفسي، من شأنه أن يجعل النفس ترحم الضعيف والمسكين.. وهو
يربي في النفس الرغبة في إعطاء الضعفاء ومنحهم ما يحتاجون..
وإذا عرف الغني بصومه ما يعانيه المساكين من الجوع والقلة، فإنه لا يتمالك إلا أن
يعاون ويساعد؛ لأن النفوس واحدة في الآلام والآمال.. ولهذا نجد أن الصدقات والزكوات
تكثر في هذا الشهر الكريم؛ مما يدل على أن العبد قريب من ربه تعالى فهو يبذل الصدقة
رجاء الثواب.. وهو أيضاً قريب من الناس، فيشعر بفقرهم وحاجتهم، ومن ثم لا ترضى نفسه
الأبية أن يرى جاره أو قريبه أو المسكين يتلوى جوعاً وهو ينظر دونما إسعاف أو
عطاء..
الزكاة: تعد
الزكاة من أجلِّ الأمور في التكافل؛ لأنها تعني إخراج حق معلوم من المال للفقير
والمحروم، فهي تكليف اجتماعي خالص ومصرفها خالص، ونظامها في الجمع والتوزيع يشمل
أكثر أبواب التكافل الاجتماعي.. وولي الأمر هو الذي يجمعها إن كان عادلاً أميناً
وهو الذي يصرفها في مصارفها، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في وصية معاذ: [2]فأعلمهم
أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم رواه البخاري
ومسلم في حديث طويل.
فدل على أنها توزع في نفس البلدة أو المحلة التي أخذت منها..
ولقد
جعل الإسلام كفارات الذنوب تعاوناً اجتماعياً:
فمن أفطر في رمضان فعليه عتق رقبة أو صيام ستين يوماً، أو إطعام ستين مسكيناً.. ومن
حلف وحنث في يمينه كان عليه عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم..
ولقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الصدقة مكفرة للذنوب، قال صلى الله عليه وسلم:
[3]والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار
رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد. وقد ورد في الترمذي عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً: [4]إن
الصدقة تطفئ غضب الرب وتدفع عن ميتة السوء.
الحج:
يعتبر الحج
موسماً للتعاون والتآزر، تجتمع فيه مختلف العبادات السابقة من صلاة وصيام وزكاة
وكفارات وغيرها. ويجعل المؤمنين يتعارفون ويتكافلون حيثما كانت أماكنهم، ومهما
تباعدت أقطارهم، فهو ليس توجيهاً للتكافل الاجتماعي داخل الإقليم الواحد فقط! ولكنه
توجيه لهذا التكافل في عموم الأقطار الإسلامية1،
والدليل على ذلك: أن الله جعل الهدي الذي يذبحه الحاج عند بيت الله طعمة للفقراء
والمساكين، كما قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ
لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم
مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}[الحـج:
27].
ولقد ذبح رسول الله مائة ناقة هدياً إلى بيت الله تعالى فتركها لا يرد عنها إنسان
ولا حيوان، وهكذا يظهر جانب التكافل في موسم الحج واضحاً جلياً من حيث الهدي، وكذا
الكفارات التي تحصل ومنها: ما لو ارتكب العبد
محظوراً أو ترك واجباً أثناء حجه فإنه يُكَفِّر قال الله: {وَأَتِمُّواْ
الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ
الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ
فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن
صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ
بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ
عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[البقرة:
196]، والشاهد في الآية قوله: {ففدية من صيام أو صدقة أو
نسك}، وكذا من قتل في الحرم صيداً – وهذا لا يخص الحج بل هو عام على مدار
الزمن في البلد الحرام، ومن قتل شيئاً من حيواناتها- فإن عليه مثلها من الأنعام
يهديها إلى فقراء الحرم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ
مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ
ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ
مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ
عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو
انْتِقَامٍ}[المائدة: 95] .. أيضاً يظهر التكافل في الحج من خلال توزيع
الصدقات والزكوات الواجبة والمستحبة لمختلف القادمين من دول العالم.
وبعد هذا نصل إلى أن العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج تدعو إلى التكافل، وكان من
أهدافها صناعة المجتمع المتعاون المترابط الذي يصلح أن يكون خليفة الله في الأرض،
ليعمرها بالطاعة والصلاح والإصلاح..
وفقنا الله للعمل بما نعلم.. ورزقنا علماً نافعاً، وقلباً رحيماً ليناً.. وأعاننا
على مساعدة الآخرين، والأخذ بأيديهم إلى الخير والمعروف.. والله الموفق والهادي إلى
سواء السبيل..
1
انظر (التكافل الاجتماعي في الإسلام) للإمام أبي زهرة..