قال الله سبحانه وتعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ، وقال سبحانه وتعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .
ولقد قرنَ الله سبحانه وتعالى بين التجارة وبين الجهاد في سبيل الله، وقال جل جلاله: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
هذه الآيات وغيرها أصل في فضل التجارة ومكانتها، وأنها من خير ما يكون للمؤمن في الاكتساب، والاستعفاف، والاستغناء عن الناس، وقد جاء في مسند الإمام أحمد من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله أي الكسب أطيب؟ قال عليه الصلاة والسلام: عملُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُور.
ولقد كان الأنبياء واسواق، ويَبتغون من فضل الله، وكَبُر َذلك على المشركين، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم -كما لمرسلون يَمشون في الأحكاه الله جل جلاله في سورة الفرقان-: وَقَالُوا مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ۙ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا ۚ وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا .
فالنبي صلى الله عليه وسلم قد خرج متاجرًا قبل أن يَنزل عليه هذا الأمر، قد خرجَ متاجرًا إلى الشام، وقد رعى الغنم عليه الصلاة والسلام بقراريط لآل مكة، قراريط يعني دراهمَ يسيرة.
وما من نبيٍ إلا وقد رعى الغنم، وكان زكريا نجارًا، وكان داود لا يأكل إلا بعمل يده، وقد قصَّ الله سبحانه وتعالى عن نبي الله، وكليم الله موسى، أنه عمل أجيرًا عند شيخٍ في مدين عشر سنوات: قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ۖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ ۖ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ۚ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ، فعمل عنده أجيرًا عشر سنين، فأتم أوفى الأجلين عليه الصلاة والسلام.
وقد قال الله سبحانه وتعالى وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ۗ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا.
وهكذا سادات الصحابة رضي الله عنهم، كانوا تجارًا، فأبو بكر كان تاجرًا، وعمر كان تاجرًا يبيع ويشتري ويَصفق بالأسواق، وكان عثمان كذلك، وعبد الرحمن بن عوف هو الذي قال: دلوني على السوق، لما أراد سعد بن الربيع الأنصاري أن يَقسم له شطر ماله، وأن يزوجه إحدى نسائه بعد أن يُطلقها، فكانوا يتاجرون، ويَستغنون عن سؤال الناس، ويُعفون أنفسهم، وقد قالت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح البخاري: “كانَ أصْحَابُ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عُمَّالَ أنْفُسِهِمْ، كانوا يعملون بأيديهم رضي الله عنهم، وإنّ هذا لا يتعارض مع الزهد، والتخفف من الدنيا، والتقلُلِ منها.
قال علي بن الفضيل سمعت أبي، الفضيل بن عياض يقول لابن المبارك، عبد الله بن المبارك هذا الجبل في العلم والجهاد والتجارة والإنفاق في سبيل الله والحج، كان إمامًا يُقتدى به.
عبد الله بن المبارك كان تجارًا معروفًا مشهودًا له بحسن تجارته، قال له الفضيل بن عياض، وهو من كبار الزهاد، قال له: أنت تأمرنا بالتزهد، والتَّقلُل من الدنيا، والبلغة، يعني نأخذ من الدنيا ما يُبلغنا الآخرة وأنت تستقدم البضائع من خرسان إلى البلد الحرام! -يأتي بالبضائع من خرسان إلى مكة-قال: يا فضيل، إنما أعمل هذا؛ لأكف عرضي ووجهي عن الناس، وأطيع به ربي.
فمن حسنت نيته في تجارته، انقلبت إلى عبادة يتعبد بها إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا مما ينبغي أن يتنبه إليه الناس، وأخصهم التجار أن حسن القصد في التجارة، تقلب هذه التجارة، وهذه المعاملة التي ظاهرها معاملةً دنيوية، تقلبها إلى عبادة يُتعبد بها إلى الله سبحانه وتعالى. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ومَن يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، ومَن يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، فتكون له نية طيبة في تجارته، يُغني به نفسه، وأهله، ويتصدق، وينفع المسلمين بجلب البضائع، وأنواع الصناعات لهم، فييسر عليهم.
فبحسن القصد في التجارة تنقلب إلى عبادة، لا يكون قصده أن يتكبر على عباد الله عز وجل، ولا أن يترفع عليهم، ولا أن يعلو في الأرض، ويكون له علوًا وتفاخرًا على عباد الله، فإن هذا ليس من شأن عباد الله وأوليائه الصادقين.
ومن المحاذير التي ينبغي أن يتنبه لها من يشتغل بالتجارة، أن يتقي الله سبحانه وتعالى، أن يتقي الله جل جلاله فيما يأتي ويذر، في تجارته وبيعهِ وشرائهِ، بأن يجتنب ما حرمه الله سبحانه وتعالى عليه، من الربا والغش، فإن الله سبحانه وتعالى قال: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾، وقال سبحانه وتعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ.
وقال سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون.
ويتجنب التاجر الغش، فلا يَغش وإخوانه المسلمين، وقد قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: “من غشَّ فليس منّا، وفي لفظ: من غشَّنا فليس منّا، فكيف بالتاجر يأتي يوم القيامة ويقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لست مني، إنك كنت من الذين يَغشون المسلمين في تجارتهم، ولا ينصحون لعباد الله عز وجل.
وقد مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على رجل يبيع طعامًا، فأدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في الطعام، فوجد أنّ به بللًا فأسفله مبلول، وهو عيب يُصرف عنه من أراد أن يشتريه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما هذا يا صاحب الطعام؟ ” قال أصابته السماء -يعني أصابهم مطرٌ فتبلل- قال عليه الصلاة والسلام: “أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس “. حتى ينظر من يريد أن يشتري، ولا يُغش في بضاعته، ويؤخذ ماله بغير وجه حق، فيتقي الله عز وجل بالبعد عما حرم الله.
وكذلك من تقوى الله سبحانه وتعالى في التجارة، أن يبتعد عن المشتبهات، ففي الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ الحلالَ بيِّنٌ وإنَّ الحرامَ بيِّنٌ وبينهما أمورٌ مُشتبِهاتٌ لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس فمنِ اتَّقى الشُّبُهاتِ استبرأ لدِينِه وعِرضِه، -يعني طلب البراءة في دينه وعرضه- ومن وقع في الشُّبهاتِ وقع في الحرامِ، كالراعي يرعى حول الحِمى يوشكُ أن يرتعَ فيه.
وقد قال عبد الله بن المبارك: لأن أرد درهمًا أن يدخل عليّ من شبهة، أحبُ إليّ من أن أتصدق بمئة ألف.
وتشوهات أن تدخل في مالك، والفقر يا عباد الله خير من ثروة ملوثة، ملوثة بما حرم الله سبحانه وتعالى وبالغش، وبالشبهات، وأمور يعلم وأمور لا يعلم، فيتقي الله عز وجل المسلم، ويعلم أن هذا المال مال الله، وأنه سيسأل عنه يوم القيامة، من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟ فليعد المسلم لهذا السؤال جوابًا، وللجواب صوابًا.
وإن مما ينبغي أن يتنبه إليه التاجر المسلم، أن من الأمور التي يثاب عليها، ويبارك له في تجارته بفعلها، الصدق في المعاملة، فقد جاء في الصحيحين من حديث حكيم بن حزام قال: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: البَيِّعانِ بالخِيارِ ما لَمْ يَتَفَرَّقا، فإنْ صَدَقا وبَيَّنا بُورِكَ لهما في بَيْعِهِما، وإنْ كَتَما وكَذَبا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِما. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء عند الترمذي وغيره أنه قال مرة عليه الصلاة والسلام: إنَّ التُّجارَ يُبعثُونَ يَومَ القِيامةِ فُجَّارًا إلا مَنِ اتَّقَى اللهَ وبَرَّ وصَدَقَ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من المواعظ والذكر الحكيم يقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم