لقد أثنى الله -سبحانه وتعالى- على صحابة نبينا محمد ﷺ في مواطن كثير من كتاب الله عز وجل فقال عز من قائل حكيمًا:
مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29) الفتح.
وقال الله سبحانه وتعالى: لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (117) التوبة.
والله سبحانه وتعالى أعلى مقام الصحابة وجعل لهم فضلاً لا يُضاهى وكل من لَقي النبي ﷺ مؤمنًا به ومات على ذلك فهو خير هذه الأمة، حتى وإن كان بقاؤه في الإسلام سويعات كما ثبت عن عدد من الصحابة أن عمره في الإسلام كان عمراً قصيراً، ربما أسلم بعضهم فشهد معركة فقُتل في سبيل الله فنال هذا الفضل العظيم، فضل صحبة نبينا محمد ﷺ.
واعلموا يا عباد الله أن الفضائل لا تدرك بالقياس فالفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم فنسأل الله جل جلاله من فضله العظيم.
وإنّ تعلم سير الصحابة والنظر في أحوالهم والعيش معهم مما يزيد الإيمان ويرفع الهمم ويجعل العبد يسمو مع صحابة النبي ﷺ ، كيف آمنوا؟ وكيف ضحوا؟ كيف نصروا هذا الدين؟ وكيف حفظ الله سبحانه وتعالى بهم هذا الشرع وهذا القرآن وسنة نبيناﷺ ؟
فيزداد المسلم تعلقًا بصحابة نبينا ﷺ، يحبهم ويقتدي بهم ويتأسى بهم.
وإن من أخص صحابة نبينا ﷺ ذاك الأنصاري الذي أسلم وكان من أعظم الناس بركة على الإسلام وأهله أبو عمرو سعد بن معاذ بن النعمان الأنصاري الأوسي الأشهلي .
كان سيد بني عبد الأشهل أسلم على يد مصعب بن عمير أول سفير في الإسلام أرسله رسولنا ﷺ إلى المدينة قبل الهجرة، يدعو إلى الله ويدعو إلى الإسلام ويعلم أهل الإسلام شرائع الدين فجاءه مرة سعد بن معاذ غاضبًا: لم تدعُ بين أظهرنا ولمّا نأذن لك؟! -جاء مغضباً ونهاه عن دعوة الناس- فقال له هذا الداعية الحكيم مصعب بن عمير قال: هل لك أن تسمع فإن كرهت شيئاً فكف عنك ما تكره وإن أحببته فذاك، فجلس سعد واستمع من مصعب، فلما سمع كلام الله سبحانه وتعالى عرفوا الإسلام في وجهه قبل أن يتكلم، تهلل وجهه بالكلام الحق، كلام الله سبحانه وتعالى فقال: ما يصنع من أراد أن يدخل في الدين؟ فعلموه ونطق الشهادة.
ثم رجع إلى قومه فلمّا رأوه قالو لقد رجع إليكم بغير الوجه الذي ذهب به.
فقال لقومه: أي رجل كنت فيكم؟ قالوا: كنت سيدنا وأفضلنا نقيبة. فقال: إن كلامكم عليّ حرام ونسائكم ورجالكم حتى تدخلوا في دين محمد ﷺ قال الراوي فما أمسى رجل ولا امرأة إلا وقد دخل في دين الإسلام.
هذا أول يوم لسعد رضي الله عنه في الإسلام دخل قومه جميعاً في الدين ببركة دعوته.
من رُزق جاهاً ووجاهةً وسلطاناً فسخره في خدمة دين الله عز وجل وفي نصرة دينه، فإنّ الله سبحانه وتعالى يرفعه ويجعل له مقاماً علياً.
سعد بن معاذ قام مقام صدق في غزوة بدر فلما أراد النبي ﷺ أن يسمع من الأنصار كلامًا يدل على أنهم سيقاتلون معه خارج المدينة -لأن البيعة أخذت عليهم أن يحموه في ديارهم- فلما كان ما كان من شأنه عليه الصلاة والسلام في غزوة بدر عرَّض بالأنصار، فقام سعد بن معاذ فقال: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال : أجل، قال سعد: فقد آمنا بك، فصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوًّا غدًا إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله , وفي رواية : أن سعد بن معاذ قال لرسول الله ﷺ: لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقًا عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار، وأجيب عنهم : فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك فو الله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك، ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، فسُر رسول الله ﷺ بقول سعد، ونشطه ذلك.
وشهد مع رسولنا ﷺ غزوة أحد، وأبلى بلاء حسناً.
وشهد غزوة الخندق (الأحزاب)، وجُرح فيها وأصيب بالأكحل، رماه أبو العرقة فأصيب إصابةً بالغة، فدعا ربه عز وجل وقال: اللَّهُمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ أنَّه ليسَ أحَدٌ أحَبَّ إلَيَّ أنْ أُجَاهِدَهُمْ فِيكَ، مِن قَوْمٍ كَذَّبُوا رَسولَكَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأَخْرَجُوهُ، اللَّهُمَّ فإنِّي أظُنُّ أنَّكَ قدْ وضَعْتَ الحَرْبَ بيْنَنَا وبيْنَهُمْ، فإنْ كانَ بَقِيَ مِن حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيءٌ فأبْقِنِي له؛ حتَّى أُجَاهِدَهُمْ فِيكَ، وإنْ كُنْتَ وضَعْتَ الحَرْبَ، فَافْجُرْهَا واجْعَلْ مَوْتَتي فِيهَا .
وفي غزوة الخندق خان بنو قريظة الذين هم من موالي سعد بن معاذ خانوا الوثاق والعهد برسول الله ﷺ، فمكث سعد -أطال الله بعمره- حتى أشده ذل قريظة ونزلوا على حكم الله ورسوله ﷺ بعدما حاصرهم شهر -عليه الصلاة والسلام- فأنزلهم رسول الله ﷺ على حكم سعد بن معاذ، فقال: احكم فيهم يا سعد، قال حكمي نافذ فيهم يا رسول الله؟ قال نعم. ثم أشار سعد قال: وعلى من هاهنا؟ -وأشار من الجهة التي كان فيها رسول الله ﷺتأدبًا ولم يقل عليك يا رسول الله- فقال رسول الله ﷺ: نعم. فقال سعد بن معاذ فإني أحكم فيهم أن تُقتل مقاتلتهم وأن يُسبى نساؤهم وذراريهم، فقال رسول الله ﷺ والله: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات. وفي رواية: من فوق سبعة أرْقِعةٍ.
حكم فيهم ثم توفاه الله سبحانه وتعالى.
ولما مات جاء عن جابر أن النبي ﷺ قال اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بنِ مُعاذٍ، وهذه المنقبة لا تعرف لأحد من الصحابة إلا لسعد بن معاذ . والحديث في الصحيحين.
وجاء في رواية عند الطحاوي: “أن جبرائيل نزل على رسولنا فقال يا محمد من مات؟ لقد اهتز لموته عرش الرحمن وفُتّحت أبواب الجنان، فخرج النبي ﷺ مُسرعاً إلى سعد فوجد سعدًا قد فاضت روحه إلى الله عز وجل. ذهب النبي ﷺ ينظر إلى سعد -كما جاء في بعض الروايات- مسرعاً حتى قال بعض الصحابة: تقطعت شَسع نعالنا، وسقطت الأردية من مناكبنا فقالو يا رسول الله لقد تقطع شَسع نعالنا وسقطت الأردية من فوق مناكبنا، قال رسول الله ﷺ: إني أخافُ أن تسبقَنا الملائكةُ إليه فتغسلُه كما غسَّلتْ حنظلةَ.
أُهدي إلى رسولنا ﷺ جُبة من سندس وكان ينهى عن الحرير -والحديث متفق عليه- من حديث أنس، فتعجب الناس من ليونتها فقال: أَتَعْجَبُونَ مِن لِينِ هذِه؟ لَمَنادِيلُ سَعْدِ بنِ مُعاذٍ في الجَنَّةِ، خَيْرٌ منها وَأَلْيَنُ .
وجاء عند الإمام أحمد من حديث عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله ﷺللقبرِ ضغطةٌ لو نجا منها أحدٌ لنجا منها سعدُ بنُ معاذٍ، رضي الله عنه.
كم كان عمره في الإسلام أسلم وعمره واحد وثلاثون وتوفاه الله سبحانه وتعالى وعمره سبعة وثلاثون، ستة أعوام في الإسلام فلما مات اهتز له عرش الرحمن.
له هذه الفضائل المتكاثرة.
حزن النبي ﷺ على وفاته حزناً عظيماً، وبكى عليه أبو بكر وعمر.
يقول الراوي: والله لقد سمعت بكاء أبي بكر وعمر، وإني أعرف بكاء أبي بكر من بكاء عمر وبكاء عمر من بكاء أبي بكر كان له مقام صدق في الإسلام هؤلاء الصحابة حلى لو علمنا سيرهم ومقاماتهم العظيمة قاد ذلك المسلم إلى أن يتمسك بدين الله عز وجل، وأن يكون ناصراً لهذا الدين.
فهذا الدين -يا عباد الله- ما بلغنا إلا بتضحيات وجهود وجهاد ومصابرة من أولياء الله عز وجل من الصحابة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.